ربيع نواكشوط.. ترجمة محفوظ ولد السالك
ويحصل أن تجتمع – بغرابة – فرصة الاتصالات، والحاجة إلى المعلومات، في هذا الاثنين الخامس من سبتمبر، بعد شهر ويومين على انقلاب نواكشوط، فأتحدث هاتفيا بفارق ساعات، مع الرئيس المخلوع، وخليفته.
كانت المحادثة الأولى من الدوحة القطرية، حيث حصل معاوية ولد الطايع على اللجوء، يبدو أن الرجل يتعافى تدريجيا من صدمة الإطاحة به.
وعلى الرغم أن من الواضح أنه – لم يضع سلاحه بعد – فإن الاستقالة ستستغرق بلا شك أشهرا طويلة، قبل أن تتقرر لدى هذا الرجل العنيد، الذي قاد موريتانيا لعقدين، ويرفض الاعتراف، ومن باب أحرى، الكف عن التصريحات النارية عقب الانقلاب.
“لقد قلت ما قلته بشأن هذه القضية الغريبة والفاقدة للمعنى، فلننتظر الآن ولنترك الفعل والرؤية للمستقبل” يؤكد ولد الطايع.
فيما تبقى، قال معاوية إنه استقبل بحفاوة من طرف الإمارة، واستقر به المقام، وإن زوجه وأطفاله في وضعية جيدة، ومعنوياته – كما تعرفونني – “جيدة” يضيف.
وكان ثمة توضيح مهم للغاية: فعلى خلاف الشائعات، لم يتحدث الرئيس هاتفيا في 3 أغسطس، يوم الانقلاب “لا مع من أطاح به، ولا مع من كان يفترض أن يؤمنه” يقول العقيد محمد ولد عبد العزيز، قائد كتيبة الحرس الرئاسي.
ولم يحصل اتصال إذا منذ ذلك الحين. ومن المؤكد أن الأمير القطري أعلن شخصيا على قناة الجزيرة أن الضيافة الممنوحة لولد الطايع لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن تؤثر على طبيعة العلاقات بين بلاده وموريتانيا.
ويمكن أن نتخيل بأمان، أن ضبط النفس، الذي أظهره الرئيس السابق، يعود إلى حد كبير، إلى التزامه التحفظ، لكن ليس ذلك وحسب.
بدا ابن 64 ربيعا، المتواضع، والكتوم، المنعزل، وقليل الحديث، للعلن في وضعية غير مواتية أمام الميكروفونات وعدسات الكاميرات، حيث تتالت الزلات اللسانية، والأكيد أن الصمت كان يسعه، حتى وإن كان – على غرار العديد من أسلافه – يحتاج المزيد من الوقت ليكون مؤهلا للسلطة وممارستها.
وكما يدرك ذلك، كل الأطباء وعلماء النفس، فإن مبتوري الأطراف يستغرقون أحيانا سنوات للتخلص من متلازمة “فانتوم”.
تتسق هذه “الطبيعة” لدى الرئيس السابق، مع موقف القادة الجدد تجاهه منذ البداية.
وعلى الرغم من عودة ولد الطايع إلى نواكشوط من محطته الأولى في نيامي، فإن الطائرة الرئاسية، وغالبية الوفد الذي كان مرافقا له إلى المملكة العربية السعودية، أرسلهما سرا خليفته إلى النيجر، صحبة ما توفر من مال، لتأمين الأشهر الأولى من النفي.
“نحن لم نقم بسوى وضع حد للانجراف، الذي تغرق فيه موريتانيا ببطء وثبات، من أجل إعادة توجيه بلادنا نحو المسار الصحيح” يشرح لي العقيد اعلي ولد محمد فال.
و”ما خلا ذلك، ليس لدينا شيء شخصي ضد معاوية، ناهيك عن أسرته ومقربيه. لن تكون هناك تصفية للحسابات، أو صيد في المياه العكرة، ولا روح انتقام، ولن يكون هناك أي إجراء قانوني، أو دعوى قضائية ضده أيضا.
وإذا كان هناك مغامرون على الميدان، فإننا سنعيدهم للانتظام. نحن نحترم شخصه ونتمنى له إحالة للتقاعد هادئة”.
إن هذه اللغة التوافقية، التي لا تستبعد بالتأكيد شدة الدوافع الخفية، للانقلاب “الناعم” في 3 أغسطس، ليست بالجديدة على موريتانيا.
فلم يرافق الإطاحة بالمختار ولد داداه عام 1978، ومحمد خونه ولد هيدالة عام 1984، إطلاق نار، ولا إراقة دم.
انطباع الحق والخطأ بشأن الانقلاب، عززه القرب الشديد الذي طبع لربع قرن، العلاقات بين ولد الطايع وكل واحد من الأعضاء 17 باللجنة العسكرية التي أطاحت به.
إنهم ينتمون جميعهم إلى عائلة واحدة ومزدوجة: إنها عائلة الضباط البيضان، والسبب جزئيا هو التخلص منه، ومن ثم الهيمنة عليه دون احترام للقواعد، وفي كسر للتوازن بين الأشقاء، لصالحه يوجد الرئيس السابق اليوم في المنفى.
إن مجتمع البيضان ذو طبيعة مساواة عميقة، وتوافقية حول شخصية رئيس الدولة – والدولة يسود التصور على أنها كتكنولوجيا أجنبية ينبغي الاستعانة بها – لقد كان ذلك يحصل دائما في البداية على رجل متحفظ، وامحى تقريبا، لقد كان قادرا على التفاوض وتقديم الحل الوسط، إنه – إن أمكن ذلك – من أصل “مرابطي”، ولا ينتمي لقبيلة تشتهر بالقتال.
كان هذا هو الحال، عندما تولى السلطة المختار ولد داداه، فمحمد خونه ولد هيداله، ثم معاوية ولد الطايع.
هو الحال أيضا بالنسبة لاعلي ولد محمد فال، وقبيلته الأصلية أولاد بالسبع، التي أنجبت العديد من رجال الأعمال لموريتانيا، وشكلت مع اسماسيد وإيدوعلي “مثلث التراكم الاقتصادي” أطار- اكجوجت- تجكجه.
وطالما أن النخبة المختارة هي مجرد تحكيم للسلطة، لا إعادة توزيعها، بدلا من ممارستها فعليا، فإن كل شيء على ما يرام، ولكن إذا كان الحاكم ينعزل بنفسه، أو يبالغ في إثبات ذاته، ولم يعد يستمع للنصح، أو يدخل في لعبة عناصر الخلاف، لصالح قبيلته مثلا، أو الاستسلام للمحسوبية، فإن ذلك يكون على مسؤوليته الخاصة، وعليه انتظار المخاطر.
وهكذا إذا كان المختار ولد داداه ضحية لحرب الصحراء، بكل تأكيد، فإن للأمر أيضا علاقة بالفجوة العميقة والآخذة في التصاعد بين إرادته لتحديث “الملقط” والحالة الحقيقية للمجتمع.
وأطيح بهيداله لأسباب معاكسة: كثرة المؤيدين لقضية الصحراء بلا شك، ولكن أيضا لطغيان التقليدية في ممارسته وتصوره للسلطة.
وإدراكا منه لمطالب مجتمع البيضان، سعى معاوية ولد الطايع باستمرار إلى تحقيق توازن، واستطاع لفترة طويلة تجنب هذا القصور القاتل.
ومنذ سنوات وحتى الآن، وفي الوقت الذي كان يدمج فيه قصر رئاسي جديد من الخرسان والرخام الرمادي، كانت الحقائق تتقطع تدريجيا، لدرجة عدم القدرة على اكتشاف إرهاصات التشويش من أقرب معاونيه، وثم علامات الطلاق الوشيك.
وكما في عامي 1978 و1984، وقع انقلاب 3 أغسطس 2005 دون أن يتم أي احتجاج في شوارع نواكشوط، ودون تحرك المجتمع الدولي إلى ما هو أبعد من ذلك.
يحكم معاوية ولد الطايع هنا ميزان فاتورة أخرى: خجول ومبتعد، هش في بعض الأحيان، وربما خدرته التوقعات النفطية في بلده، والتي أدارها في جو من التعتيم على التقدم الحاصل بشأنها – فالبرميل الأولى تنتظر في غضون أشهر – وقد كان هذا الرئيس الموريتاني السابق موضع تقدير من قبل أقرانه.
لقد كان يعرفها ولم يتحرك طبقا لها، وكان مقتنعا أن العلاقات الدولية تحكمها أساسا السخرية وصراع القوى.
ملاحظة كان هو نفسه قادرا على قياس مدى صحتها نظرا إلى أن شركائه سرعان ما شطبوا على ذلك، بمن فيهم الأمريكيون، حدادا على اختفاء أحد رجالهم الرئيسيين في القارة قبل أربعة أيام: جون قرنق.
ويلخص أحد المقربين من دومينيك دو فيلبان رافقه، وهو حينها وزير خارجية، خلال زيارة مجاملة قام بها إلى نواكشوط في أعقاب محاولة الانقلاب الدامية في يونيو 2003، هذا الشعور: “لقد كان لدينا انطباع سريالي غريب بعض الشيء عن رجل مقفل يدير بلده مثل مهندسي ناسا الذين يوجهون الأقمار الصناعية: من غرفة التحكم”.
في النهاية لقد خسر صانع الساعات الأعلى، بفقده السيطرة على المكوك، وتولى فريقه المهام بفرق واحد وهو أنهم في الداخل.
وفي هذا المنحى، فإن مبادرة أعضاء اللجنة العسكرية بشأن “أول النظراء” العقيد اعلي ولد محمد فال، لا تخلو من إثارة سوابق معينة.
لقد فكروا في الضباط البرتغاليين وثورة القرنفل عام 1974، وفي بن علي وطرده بورقيبة، أو أمادو توماني توري وإطاحته بموسى تراوري.
إنهم في كل مرة أشخاص من “الحريم” مرتبطون في بعض الأحيان بأخطاء النظام المخلوع، ولكنهم يصغون بما فيه الكفاية، لنبضات البلاد، وإدراك أقدميتها، لذا وضعوا حدا لمسار مجنون كان سيدفع بها نحو الحائط.
ومن المسلم به أن المستقبل وحده سيحدد، ما إذا كان 3 أغسطس ثورة قصر، وإعادة توزيع للسلطة بين النخبة العسكرية البيضانية، أم أنه تغيير حقيقي في العمق.
ولكن المظاهر، للوهلة الأولى، لا تبدو مضللة في أرض السراب هذه: الأمر يبدو شبيها بالقطيعة.
من العفو الشامل، إلى مرسوم رئاسي يستثني جميع أعضاء اللجنة العسكرية والحكومة من أي منافسة انتخابية في 2007، ومن إطلاق سراح المعتقلين الإسلاميين، إلى انقلابيي 2003 الذين كانوا أوائل من تسببوا في تعثر نظام ولد الطايع”، ومن عودة المنفيين كذلك إلى تحرير الفضاء السمعي البصري… يبدو أن للشتاء الموريتاني عام 2005 ظلالا على الربيع. فهل حقا كذلك؟ الموريتانيون يصدقون.
ومع تغير كل شيء، يبدو كل شيء أبسط وأكثر شفافية ومرونة في طريقة ممارسة الرئيس الجديد، الذي يدعوه الجميع في نواكشوط اعلي، للسلطة.
الطفل السابق بقوات “فريجو”، الخريج السابق من أكاديمية مكناس العسكرية، قائد المنطقة السادسة التي ساعدت ولد الطايع في تولي السلطة عام 1984، رئيس جهاز الأمن لأكثر من عشرين سنة، من المفارقات ظهوره كرجل جديد.
حذر، فهو يرفض فتح “صندوق باندورا” لتصفية الحسابات، منفتح، يستقبل في القصر المعارضين، ومسؤولي المنظمات غير الحكومية، وزعماء القبائل، الذين لم تطأ أقدامهم من قبل القصر، يستمع إليهم، لكنه خبيث، ويلعب بشكل رائع، مع روح دعابة محببة، وشارب “مناضل طويل الباع في حركة سياسية تدافع عن المبادئ بعناد”.
أيكون اعلي ولد محمد فال الرجل الذي تتصالح معه موريتانيا بما في ذلك بالطبع العنصر الزنجي الموريتاني، خارج اللعبة لفترة طويلة؟
وكثيرا ما أذهلني أمر أساسي في كل لقاءاتي مع اعلي: اهتمامه بالقضية الاجتماعية، والفقر ، والتفاوت الهائل الذي يطبع المجتمع الموريتاني.
إن موقعه كأول شرطي لدى الجمهورية لم يوصله قط إلى هذه الرؤية الأمنية البحتة التي انتهى بمعاوية ولد الطايع المطاف عندها.
وفي الوقت الذي يصنف فيه تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الذي ظهر مؤخرا، موريتانيا في المرتبة 152 من أصل 177، في مجال التنمية البشرية، فإن وصول رجل لم ينس بعد من يكون الشعب، ولا كيف يعيش، إلى السلطة، كان منتظرا، كما المطر…
فرانسوا سودان
ترجمة: محفوظ ولد السالك.