الشيخ سيدي عبد الله يدون عن “المحظرة”

كتب الاعلامي الشيخ ولد سيدي عبد الله على صفحته في الفيسبوك عن الجدل الدائر حول “المحظرة” الموريتانية.

وأورد ولد سيدي عبد الله في تدوينته التالي:

جواب على سؤال :

تابعت منذ أيام نقاشا على صفحات هذا الفضاء حول المحظرة وما قدمته لأهل هذه البلاد من مكانة رفيعة أو متواضعة …
ولولا أنني لاحظت أسماء لشخصيات أحترمها وأحترم عقلها لما أدليت بدلوي في هذا النقاش القديم/الجديد..
من أهم الملاحظات التي سأفتتح بها هذا الرأي هي أن الثقافة وتاريخ الثقافة ليس لعبة يدلو كل من هب ودب برأيه فيها مفنداً ومؤيداً، فمن لم (تحكه الحبال) [مصطلح محظري] في البحث والتنقيب المعرفي والاطلاع دون موقف مسبق ولا عقدة ذاتية لن يتأتى له الحكم على “المحظرة” التي شكلت على امتداد قرون عديدة (جهازا قرائيا)[مصطلح من نظرية التلقي] لكل ساكنة هذه البلاد ..
إن أهم ما أشارإليه غاستون باشلار عند الحديث عن (العوائق لبستمولوجية) هو عائق ( وهم الكهف، وهم الجنس، وهم الموقف) والاحكام المسبقة أحد أوهام الكهف القاتلة.
أن تحكم على موضوع لا تملك عنه أي معلومات ذات شأن، وأن تهاجم ثقافة لم تكلف نفسك يوما عناء القراءة عنها ونقدها بنيويا، معناه أنك حانق على هذا الأمر ولا تهمك الحقيقة فيه ولا التوصل لما يرضيك معرفيا تجاهه.

سأل أحد الاخوة الذين أحترمهم : اعطوني عالما محظريا واحدا أو كتابا واحدا في مكانة ابن خلدون أو الجبرتي أو غيرهما ..
وهنا أسأل أخي السائل : متى بدأت المحظرة كنمط تعليمي في هذه البلاد؟
ومتى بدأ التأليف؟
متى عمّ التعريب هذه المنطقة؟
ومتى وصل (الكاغد) هنا، وهو أولوية الأولويات في التأليف والعطاء، وندرته هي السبب في انتشار ظاهرة الحفظ لدى هؤلاء القوم؟
الاجابة على هذه الأسئلة تنفي قياس صديقنا، فأين هذه الصحراء المترامية الاطراف، المعزولة من القيروان أو الاندلس أو القاهرة ؟
كيف تقارن بين عالم توفرت له أسباب البحث والتأليف ورفاه العيش وآلة تسويق الانتاج والشهرة، مع آخر يعيش في صحراء لا تنبت زرعاًولا بصلا؟
ثم أيهما أحق بالتميز : ذاك الذي عاش بين البلاطات والمكتبات والاسواق، أم ذاك الذي ابتكر جامعته المتنقلة على ظهور العيس ترحل معه حيث مساقط الغيث ومنابت الكلأ؟
الشهرة لا علاقة لها بقيمة العطاء، وإلا لما اشتهر اللصوص والقتلة عبر التاريخ.

ومع كل ذلك، خذ معي :
الشيخ سيدي المختار الكنتي من أوائل العلماء المسلمين الذين تحدثوا عن كروية الأرض ( هي ضمن درس علم الهيئة في المحظرة الشنقيطية)..
وقد أشاد علماء المشرق والمغرب بحديثه ذاك .. يقول رفاعة الطهطاوي في (تخليص الابريز): “وممن قال بأن الأرض مستديرة وأنها سائرة العلامة الشيخ مختار الكنتاوي بأرض أزوات(أزواد) بالقرب من بلاد تنبكتو وهو مؤلف مختصر في فقه مالك ضاهى به متن خليل وضاهى ألفية ابن مالك في النحو وله غير ذلك من المصنفات في العلوم الظاهرة والباطنة كأوراد وأحزاب كحزب الشاذلي وقد ألف كتابا سماه النزهة جمع فيه جملة علوم فذكر بالمناسبة علم الهيئة فتكلم على كروية الأرض وعلى سيرها ووضح ذلك فتخلص من كلامه أن الأرض كرة ولا يضر اعتقاد تحركها أو سكونه”..
وهو يشير الى قول الكنتي في (نزهة الراوي وبغية الحاوي) : “الأرض مستديرة كالكرة والسماء محيطة بها من كل جانب كإحاطة البيضة بالمحة ،فالصفرة بمنزلة الأرض ،وبياضها بمنزلة الماء ،وجلدها بمنزلة السماء”..
وليس هذا كل ما أثار به الشيخ سيدي المختار انتباه علماء الشرق والغرب.

ثم خذ عندك كتاب ( فيض الفتاح على نور الأقاح) لسيدي عبد الله ولد الحاج ابراهيم الذي شكل أحد اهم مراجع البلاغة في جامع القرويين وانتقل مع خريجيه إلى أعرق الجامعات الاسلامية وما زال كذلك إلى يومنا هذا .
يقول الباحث المغربي عبد الواحد لمرابط: إنه من الممكن تلمس “الصورة التي كانت عليها المعرفة البلاغية، في مغرب بداية القرن التاسع عشر، من خلال هذا الكتاب، وهو عبارة عن شرح يقدمه المؤلف لمنظومته البلاغية المسماة (نور الأقاح).
فقد حظي هذا الكتاب، إلى جانب منظومة ابن كيران، باهتمام كبير، إذ اعتـُمدا معا في درس البلاغة والأدب بالمدارس المغربية العتيقة، في الفترة المذكورة”.

وخذ عندك كتاب أضواء البيان للعلامة آب ولد اخطور أليس هو المرجع الأكثر شهرة بين كتب التفسير في جميع الجامعات الاسلامية لدرجة يقدمه بعضها على الكثير من كتب التفسير التي سبقته؟

وخذ عندك كتاب “زاد المسلم” ألم ينتظر الأزهريون زمنا حتى التحق بهم ابن ما يابى وتم تكليفه بتأليف هذا الكتاب الذي يجمع بين دفتيه ما اتفق عليه البخاري ومسلم…؟

خذ عندك كيف اخترق الشاعر محمد ولد الطلبة كل حجب الصحراء ليعد ضمن شعراء “لاميات الأمم” .
ففي بحث لأحد الباحثين المعاصرين، هو محمود الربداوي حول (لاميات الأمم)، نجد لامية ولد الطلبة تتنزل جنبا إلى جنب مع لاميات، امرئ القيس والأعشى وكعب ابن زهير وحسان ابن ثابت وأحيحة بن الحلاج والحطيئة والأخطل والقطامي والمتنبي وأبي العلاء المعري وابن المقري وابن الوردي والصفدي والهاشمي.
ويعلق الباحث المذكور قائلا : ” كلها من نفيس الشعر وفاخره …إنها مجموعة من اللاميات مبثوثة في دواوين الشعراء، فيها من الأفكار والمعاني وخلاصات الرأي الراجح ما لا يقل عن هذه اللاميات (لامية العرب والعجم واليهود والهنود والمماليك ..) إن لم يبزَّها في بعض الأحيان، يُدخِلها التصنيف في المعلقات والمذهبات والمجمهرات وغيرها من نفائس الشعر”.
واللامية المذكورة هي تلك التي اعتبرها البعض معارضة للامية الأعشى.

أتوقف هنا فقد أطلتُ والنماذج كثيرة ومتنوعة ( يمكن الاستزادة منها من خلال كتبينا : (نقد الشعر الفصيح عند الشناقطة) و (دراسات في الأدب والثقافة)….
لم أتحدث عن دور ولد التلاميد في تصحيح وتحقيق أمهات التراث وكيف أن اسمه أصبح لازمة في مقدمات المحققين لأي نادرة من نوادر التراث…
لم أتحدث عن ولد فال الخير الذي أسس “مدرسة النجاة” في الزبير بالعراق وأول من فرض تدريس البنات على مجتمع كان يرى ذلك منكرا.. وبناية مدرسته ما زالت قائمة لتذكير بعضهم بعطاء أبناء المحظرة.

السؤال الآن : من أين تخرج كل هؤلاء؟ أليس من المحظرة ؟
إنني أهيب باخوتي المنكرين على أبناء وطنهم أي ريادة وعطاء أن يعودوا للقراءة عن هذا التراث قبل الحكم عليه سلبا أو إيجابا.

وحتى تتضح الأمور للناس أنا مستعد لمناظرة تلفزيونية أكون أحد أطرافها لاظهار عطاء المحظرة مشرقا ومغربا ، فهل يقبل أحد اخوتي المنكرين أن يكون الطرف الثاني؟
القضايا الثقافية يجب أن تناقش بالحجة وليس بالاساءة والتجريح…

الوسوم
زر الذهاب إلى الأعلى